محمد صالح عبد الرضا
يدرك اغلب من كتب الشعر في هذا الجيل : أن عروض الشعر العربي مهما أتقنت من قبل دارسيها فأنها لا تخلق شاعراً , وكثيراً ما كانت الفطرة الذوقية أو الاذن الموسيقية أجدر في تكوين الشاعر من تعلم العروض , وليس أدل على ذلك من أن الشعر العربي وجد قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175. هـ) . ولكن هذا لا يعني أن الشعر أكبر من العروض. ولا يقلل ذلك من أهمية العروض كعلم يؤصل موازين الشعر العربي. وقد ظهرت قديماً وحديثاً كتب عديدة اختصت بدراسة عروض الشعر العربي وتطوراته في بحوث الشعر الحر والبند. وعموماً فالعروض علم يعنى بالأصوات ومقاطعها في الكلمات وما فيها من حروف ساكنة ومتحركة سواء في البيت الشعري أم في القصيدة العمودية, أم في الشطر الشعري للقصيدة الحرة (قصيدة التفعيلة) لكي يحكم وزن القصيدة دون أي خلل. أن صعوبة دراسة هذا العلم تكمن في مصطلحا ته المتنوعة وتعقيداته بحيث يستدعي التبسيط والتيسير, وفي عصر التقنيات المتطورة لم يخطر ببال باحث قط أن يحاور الكومبيوتر ليرى هل بوسعه أن يقرأ إيقاع الشعر ويدرك أوزانه باختلاف تركيباتها ألا محاولة لم يسبق لها مثيل سجلت براءة اختراعها شاعرة بصرية كانت تتلمس خطوتها الأولى منتصف التسعينات, وهي تحمل بكالوريوس حاسبات فتقدمت إلى كلية العلوم بجامعة البصرة بأطروحة ماجستير حظيت بتقدير " امتياز " تحت عنوان " حوسبة علم العروض العربي " تلك هي الآنسة جنان ألعيداني. أشارت الباحثة في مقدمتها إلى ما عرف عن اللغة العربية من بنية صوتية, وقدرة على وظائفها بحس ذوقي عال, تحكمه علوم النحو والصرف والصوت والدلالة, والشعر العربي بكونه واحداً من فنونها جسد منذ القدم رصانة العربية وقدرتها على الارتقاء بالمعنى من خلال قوالب وزنية أنشأت للشعر موسيقاه الخاصة. وقد أسس العالم البصري الخليل بن احمد الفراهيدي من خلال استقراء أشعار العرب علم العروض وهو علم ذو قوانين شائكة ومتداخلة يميز بحور الشعر العربي. وإشارت الباحثة أيضا إلى أن محاولتها في حوسبة علم العروض ترمى إلى تسهيل هذا العلم. بوساطة التقنية الحاسوبية المتطورة, بحيث نجح في تصميم نظام حاسوبي خبير وتطويره للقيام بتحليل أبيات الشعر العربي. على وفق ما يمتلكه النظام من حس موسيقي متأت من مرونة عالية, في استخدام مبادئ العروض وقوانينه وتطبيقاتها. والنظام الحاسوبي الذي اقترحته الباحثة من الأنظمة التعليمية التي تساعد الطلبة في تشخيص هوية البيت الشعري, وتحديد انتمائيته لأي بحرمن بحور الشعر العربي, فضلاً على الكشف عن مكوناته اللفظية واختيار أماكن التقطيع الصحيحة التي تعطي البيت الشعري موسيقاه الخاصة, وقد طبقت الباحثة هذا النظام على كثير من شواهد الشعر القديم والحديث وتوصلت إلى نتائج أثبتت قدرة برنامجها الحاسوبي وكفاءته في تحديد التفعيلات والمقادير اللفظية وقراءة البيت ومعرفة إيقاعه.
وقد توزعت الرسالة في أربعة فصول وبالإمكان التوقف عند أهم النقاط التي كشف عنها كل فصل من تلك الفصول باختصار بما يقدم حقيقة جديدة وعلمية تقول أن الكومبيوتر يجيد حقاً قراءة إيقاع الشعر العربي ولعل أهم تلك النقاط:
-أن التقنية الحديثة والتطور الكبير للحواسيب الالكترونية صارت تتعامل مع مختلف مجالات الحياة بشكل يتيح لمستخدميها السرعة والدقة والمرونة. وان أية محاولة للتواصل مع التراث العربي تقنياً تختلف نسيجياً معرفياً يربط الماضي بالحاضر والمستقبل ويجمع بين الأصالة وروح التجديد. والمهتمون بعلم العروض اتفقوا على أن هذا العلم قد يسبب إرباكاً في ذهن المتلقي بحيث صار من المهم البحث عن أساليب جديدة تحاكي الذهن البشري ليرتكز على مفاهيم هذا العلم بصورة أدق وأسهل واتجهت الفكرة إلى فتح أفق علمي حاسوبي جديد يسهل مهمة قراءة عوالم الإيقاع والنغم والموسيقي والصوت في أطار محاكاة الحاسوب وتطويعه لمحاكاة المنطق الأدبي.
- أن تنوع مصلحات العروض بين وزن وقافية وتفعيلة وغيرها من مفاهيمه استدعى البحث وراء البنية الظاهرية وإعداد هيكل مرن ترتكز عليه هذه المفاهيم وصولاً إلى البنية الباطنية التي تتحكم بنسق البيت الشعري وسلوكه من خلال موسيقاه الداخلية.
-نهج البحث إلى تصميم مجموعة من الدوال البرمجية, لتحويل الكتابة الإملائية إلى كتابة عروضية باستثناء بعض الشواذ مع ملاحظة تنوع أنماط أوزان بحور الشعر العربي وبنيتها الداخلية التي تعد العمود الفقري الذي يستند عليه معنى البيت على وفق ضوابطه اللفظية التي كانت تدرك بالحس الموسيقي الفطري.
- من المحاولات الجديدة في دراسة العروض كانت محاولة الدكتور طارق الكاتب في كتابه (موازين الشعر العربي باستعمال الأرقام الثنائية) وقد ربط ما بين سلوك النظام الثنائي, وسلوك التحركات والسواكن للبيت الشعري واعتمد الصفر لتمثيل المتحرك. واعتمد الواحد لتمثيل الساكن ثم قام بتحويل الصورة الثنائية للبيت إلى شفرة بدلالة النظام العشري. ولخص جهده بمجموعة من الجداول وصلت إلى اثنين وعشرين جدولاً يجب الرجوع أليها عند تحديد هوية البيت الشعري.
- أن التقدم التكنولوجي المتسارع في معمارية الحاسبات, وهندسة البرمجيات وإمكانات لغات البرمجية كائنيه المنحى الحديث جعلت أية معضلة من وجهة نظر قابليات الكائن البشري أمراً بغاية السهولة. وفي هذا الإطار تبنى الفصل الثاني من الدراسة تقديمه دراسة تحليلية للهياكل الوزنية للبحور واقترح تمثيلاً رسومياً لها مستخلصاً من دراسة إحصائية اشتملت على عدد كبير من الابيات الشعرية. - كما غطى الفعل الثالث متطلب نظام التقطيع المقترح من خلال تطوير خوارزميات تتبنى معالجة الكتابة الاعتيادية وتحويلها إلى عروضية وتحويل الأخيرة إلى مقاطع صوتية, بعد تحويلها إلى متحركات وسواكن وكذلك منهجية التقطيع والعروض النهائي الذي روعي فيه توفير كل ما يتطلبه تحليل البيت الشعري وشفرة التفعيلية.
- أن تنوع نظم توزيع التفعيلات تمخض عن ظهور هياكل وزنية تفرد كل واحد منها بنظام إيقاعي خاص به, وهذه النظم الوزنية لها القابلية على الاحتفاظ بإيقاعها العام حتى بعد تعرض بعض تفعيلاتها إلى الزحافات والعلل, وهذا يعني انه يمكن النظر إلى كل بحر على أساس كونه مجموعة شاملة ويمكن وبسبب الزحافات والعلل تجزئتها إلى مجاميع جزئية, كل منها له طابعه الإيقاعي الخاص. - أن كل بحر من بحور الشعر العربي مثل بمجموعة هياكل وزنيه مساوية لعدد أوزانه , وفي أحد الجداول تعرض الباحثة بحر الرجز الذي يحتوي على خمسين وزناً, له خمسون تمثيلا رسوميا, وكل تمثيل رسومي من تلك التمثيلات يحتوي على مجموعة من الأنماط متمثلة بحاصل جمع خلايا العمود الأول للجدول. حاصل جمع خلايا العمود الثاني .. الخ
- تمخضت دراسة الباحثة لبنية الشعر العربي العمودية الصوتية عن جملة استنتاجات أهمها أن للشعر صورتين : ظاهرية متمثلة بخطة, والأخرى باطنية حاملة لإيقاعه متجسدة بلفظة, وان جذور الصورة الباطنية تتشكل في تسلسل رمزي من المتحركات والسواكن يمكن تزويدها باعتماد أي رمزين, ويمكن تحديد المقادير المقطعية اللفظية للبيت الشعري بعد تحديد انتمائية, واعتماد الطول المقطعي للصدر والعجز وبعض التفعيلات في حالة وجود أكثر من تقطيع لنفس الطول المقطعي.
دونت الباحثة في الصفحات الأخيرة من رسالتها قبل الملحق توصيات للعمل المستقبلي لتطوير عملها, ليشمل معالجة الشعر الحر والعمل على تعبير إيقاعي جديد لإيقاع البيت الشعري باستحداث موسيقي (دندنة) في حاسبات رياضية معينة فضلاً عن تعليم الحاسبة نغمات خاصة لتفعيلات البيت الشعري, والعمل على كشف الأوزان المختلفة التي نظم بها بعض الشعراء, لكنها لم تقر من قبل العروضيين وتطوير النظام ليشمل أيضاً آلية تمييز الموشحات. لقد اعتمدت الباحثة مصادر عربية تزيد على العشرين في الأصوات اللغوية, وموسيقى الشعر وتخريج القوافي وتهذيب العروض والبنية الإيقاعية للشعر العربي, كما اعتمدت مصادر أجنبية في علم الحاسوب وتقنياته. ووقعت الدراسة في تسعين صفحة من الحجم الكبير, وكانت هذه الرسالة الجامعية المتميزة والجديدة والجادة وبإشراف الأستاذ الدكتور صباح عبد العزيز و السيد جواد راضي العلي, وقد ناقشها الأستاذ المساعد الدكتور جاسم طعمة سرسوح والأستاذ المساعد توفيق عبد الخالق و الدكتور عبد الحسين محسن, كان لها صداها الطيب في أروقة كلية العلوم بجامعة البصرة وفي الوسط الأدبي عموماً في بصرة الخليل مؤسس علم العروض وفقيهه الأول. وإذا ما طبعت ونشرت فسيكون لها صدى أخر يؤشر قدرة باحثة بصرية من حفدة الخليل على الإتيان بالجديد الذي يضاف إلى علم من ابرز علوم العربية.
محمد صالح عبد الرضا : شاعر من العراق
موقع الشرقية